الأربعاء، 26 مارس 2008

تانية مُمَيز


بعد يوم عمل شاق قررت زيارة عائلتى فى أحد مراكز الدلتا.. توجهت لمحطة مصر.. ذهبت إلى شباك التذاكر.. علمت أن جميع القطارات المكيفة – درجة أولى وتانية- محجوزة ولا يوجد أى مقعد خال على مدار اليوم، فقررت أن "أُطّوق" وهذه الكلمة فى لغة القطارات تعنى أن أركب القطار بدون حجز وأدفع غرامة وأقف طوال الطريق أو أجلس فى بوفيه القطار )أفضل آكل وأشرب حاجات مالهاش لازمة، وإلا طار الكرسى الـ High Chair والضريبة هى مغص فى المعدة، وبعض آلام الظهر لمدة يومين واستنشاق كم لا بأس به من دخان السجائرعن طريق التدخين السلبى(.. علمت من موظف شباك الحجز أن أول قطار مراكز مكيف ميعاده بعد ثلاث ساعات، فكانت الحلول المطروحة هى أن ألغى سفرى أو أنتظر لمدة ثلاثة ساعات فى محطة مصر وسط ضجيج القطارات- الذى قد يصيبنى بتخلف منغولى- ثم أطوق وأبدأ رحلة البوفيه إياها, أو أركب قطار "درجة تانية مميزة" الذى نصحنى به موظف الاستعلامات، والذى سيتحرك بعد نصف ساعة، فعزمت النية على أن أستقل تانية مميز (هو أنا يعنى بنت بارم ديله.. ما ياما أتبهدلت فى المواصلات)، وركبت القطار الذى كان خالياً عندما دخلته فاخترت أحد الكراسى بجوار الشباك.. كانت الكراسى بلاستيكية مبطنة بنوع ردئ من الأقمشة وغير مريحة إطلاقا، بعد فترة جلس أمامى شاب وفتاة فى المرحلة الجامعية يبدو عليهما حالة حب غير معلن, وجلست بجوارى فتاة محجبة تفضح تعبيرات وجهها حبها للثرثرة.. ولأن يوم عملى كان طويلاً جداً وأمسى كان حافلا بالعديد من الأنشطة مما حرمنى من نيل قسط كاف من النوم، فكانت جفونى ثقيلة.. تعلن نفاذ طاقتى المخزونة.. طمأنت نفسى أنى فى مربع آمن وسقطت فى نوم حذر.. لا أعرف كم مضى على غفوتى.. فتحت عيونى لأجد أنى مازلت أمام رصيف محطة مصر وصوتا ينادى فى ميكرفون على الميكانيكى كى يتوجه للقطار الذى أركبه لتصليح عطل به. نظرت فى ساعتى فوجدت أنه قد مرت ساعه ونصف على ميعاد قيام القطار.. فكرت مليا فى النزول منه ولكنى لم أفعل.. ربما كنت مدفوعة فى اللاوعى باختراق التجربة حتى نهايتها. وأغلقت عينى مجدداً. وفى أثناء غفوتى اليقظة شعرت بالقطار يتحرك ثم شعرت بشخص يحاول سحب إحدى الصحف –بتاعتى- التى أسند عليها رأسى كدعامة تحمينى من الارتطام بحديد النافذة.. واربت جفونى لأرى الفتاة الثرثارة تحاول جذب الصحيفة.. نظرت إليها مستفسرة.. ربما كنت أبحث عن كلمة "بعد إذنك" أو "من فضلك"، ولكن نظرة عينى لم تضمن لى حقى فى هذه الكلمة، فتركتها تأخذ الصحيفة ...حاولت النوم مجدداً. ولكن هناك عدة أسباب تكاتفت كى تحرمنى قرارة العين.. أولها نافذة القطار المكسورة وتيار الهواء العنيد الذى يرفض أن يبقى أى شئ على حاله.. ثانيها البراغيث التى بدأت فى زيارة جلدى الحساس.. فبدأت فى وصلة هرش منفرد.. ونظرات المحيطين تتهمنى بالجرب، فقررت عدم النوم.. وأمسكت بإحدى الجرائد التى لم تفلح الثرثارة فى اقتناصها.. واستغرقت فى القراءة.. وبعد فترة وجيزة نظرت إلى الفتاة التى استشعرت أنها وجدت مدخلها للحوار وقالت:
-أنتى بتحبى السياسة ولا أيه؟
-ليه بتسألى؟ّ
-أصل الجرايد اللى معاكى جرايد غريبة قوى (كانت مجموعة من الصحف المستقلة والحزبية)
-وإيه هى الجرايد اللى مش غريبة من وجهة نظرك؟
-اللى فيها حاجات تتقرى..
-زى إيه؟
-.......ضحكت بعبط طفولى لطيف وقررت تغيير مسار الحديث وقالت: إنتى بتدرسى أيه؟
-أنا خلصت دراسة من زمان.
كان واضحا من ردودى المقتضبة أنى لا أرغب فى الرغى.. كنت فيما مضى لدى الاستعداد النفسى لمثل هذه الحوارات مع الغرباء، أما الآن فعادة ما أفضل النوم أو القراءة، فجمعت صحفى وتوسدتها معلنة رغبتى فى النوم متجاهلة الأحداث المثيرة المحيطة بى، وساعدنى على قرارى أن القطار قد غرق فى ظلمة كاحلة، فقد قُطعت الإضاءة عن العربات.. ربما توفر هيئة السكك الحديدية فى الاستهلاك أو ما شابه!
نمت وصحوت بعد فترة.. نظرت أمامى فلم أجد الشاب والفتاة المتحابين، وبعد تفحص فى الظلام وجدت الفتاة الثرثارة تجلس أمامى وفى مكانها السابق بجوارى رأيت رجلا أربعينى.. ضخم الجثة يجلس فى وضع غريب.. ربما كان يحاول النوم.. أخرجت الثرثارة من حقيبتها كيس لب وبدأت فى جولة عنيفة من (الأزأزة والتف) على الأرض –ملحوظة: المسافة الفاصلة بيننا كانت لا تتعدى عشرة سنتيمترات- شعرت بشئ يتحسس جانبى الأيمن، فنظرت فى الظلام أحاول تفحص ماهيه هذا الشئ.. فلم أجد سوى ضخم الجثة مغمضا عينه.. فظننته نائما.. ولكن نفس الشئ تكرر أكثر من مرة.. فاستنتجت أن ضخم الجثة يتحرش بى بينما يدعى النوم.. حدثتنى نفسى أنها قد تكون أوهام فى عقلى الباطن استدعتها ملابسات الموقف، إلى أن تكررت اللمسات الخفية مجددا، وعلى الفور وجدت "ضخم الجثة" يعدل وضع يده ليضعها فى جانبه الايسر -تماما مثل عرائس المولد- فى حين أن عينيه شبه مغلقتين.. ترددت فى مواجهته, ربما يَقلب الموقف ضدى كما يحدث فى الأفلام، ولكنى استجمعت شجاعتى وقلت: "لو سمحت ممكن تشيل أيدك من هنا لأنها بتلمسنى كل شوية"
واللحظة التالية لم أجده فى مقعده.. اختفى تماما ولم أره مجددا.. ونظرت إلىّ الثرثارة تستنكر جرأتى واحتفظت بهذه النظرة الى أن نزلت فى محطتها.. خلا علىّ المربع.. وبعد فترة جاء شاب فى أواخر العشرينيات يبدو عليه أنه "شايف نفسه حبتين" فجلس فى مواجهتى ووضع إحدى قدميه على المقعد المجاور لى ونظر لى بتفحص وسحب إحدى صحفى.. يا الله.. ماذا حدث للبشر؟! هل تخلو مفرداتهم اللغوية من ألفاظ الإستئذان؟! أم أصبحت أنا الوحيدة التى أتمسك بتراث أجدادى اللغوى؟! تعجبت من حاله حين أخرج كشافا صغيرا من جيبه وبدأ فى تسليط إضاءته على الجريدة تارة وعلى وجهى تارة أخرى، فالتزمت الصمت لأنى أدركت أنه يريد استفزازى.. ربما لفتح باب الحوار.. فصدرت له الطرشة.. وفجأة أضاءت العربة.. حمدت الله وعدت إلى تصفح الجرائد.. إلى أن جاء متسول يزحف على الأرض ويضع ورقة بجوار كل راكب، فأخذت الورقة التى رماها لى وكانت كارت شخصى مهترئ مكتوب عليه: "أنا عاجز لا أقدر على العمل.. ساعدوا أخوكم العاجز"، وبالرغم من قذارته الواضحة وبؤس حاله، لم أتعاطف معه وعدت للجريدة إلى أن أوشكت محطتى على القدوم.. لملمت أشيائى القليلة، وهممت بالتحرك فسألنى "اللى شايف نفسه" إن كنت سأنزل المحطة القادمة! فلم أجبه، ومددت يدى فى صمت مطالبة باستعادة جريدتى.. ووقفت أمام الباب وإذا بالقطار يقف قبل المحطة بعدة دقائق، وسمعت شابين يتحدثان بأن القطار"هيخَزن" أى سينتظر مرور التوربينى.. خزن القطار أكثر من نصف ساعة، تعبت خلالها من الوقوف، فبحثت بعينى عن مكان أجلس به، فوجدت سيدة عجوز تجلس فى مربع بمفردها.. جلست أمامها وصدمت من قذارة المكان تحت قدميها.. ربما كانت متسولة.. كانت تأكل وتنظر إلىّ بريبة شديدة, فتحاشيت النظر إليها حتى لا تجرحها نظراتى الفضولية.. نظرت تحت أقدامى، فرأيت أكداسا مكدسة من قشر اللب.. تفحصت أرضية العربة فوجدتها معبأة بالقاذورات.. بعض المناديل الورقية.. الكثير من قشر اللب والسودانى.. العديد من أغلفة البسكويت والشيبسى... إلخ، وأخيرا وصل القطار بعد ساعتين ونصف تأخير عن ميعاده الأصلى.
عندما وطأت قدماى أرض محطتى المنشودة، تذكرت على الفور طفولتى البريئة حين كنت أعشق القطارات والسفر.. كنت أنتظر إجازاتى السنوية لا لأرتاح من أعباء المذاكرة, ولا لأسافر إلى المصايف لأبلبط فى البحر, ولكن لأركب القطارات وأتابع مسيرتها وأعد أعمدة الكهرباء على طول الطريق، وأسرح بخيالى فيما قد يحمله لى القطار فى مكان آخر بعيد غير مدينتى الصغيرة.. كنت أحلم بأنى "أليس فى بلاد العجائب" ووسيلتى لم تكن المرآه التى أتخطاها لدنيا العجائب، بل القطار الذى يحملنى إلى بلاد الله الواسعة.. الله يرحم أحلام الطفولة.. وتحيا مصر.

هناك 8 تعليقات:

DoMaLaYs يقول...

معلش

شكلها رحلة صعبة فعلاً

بس بجد القطارات اصبحت فظيعه

من حيث الخدمات او الركاب او حتى العاملين

و لكن اتمنى ان تكون رحلتك القادمه

بها ايجابيات تنسيكي سلبياتها

ان شاء الله

شكراً على الموضوع الرائع

بنت جامده يقول...

بصراحه مدونتك رائعه رائعه رائعه ومش شبه حد خااااالص
وراقية جدا
وقريتها بنهم وبدون عسر هضم
بس لا اجد غير قول الله
ومن اياتة ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها
فعلا
(الزواج=السكن)
ومن الرقى ان قال لتسكنوا اليها وليس
لتسكنوا فيها

أحمد منتصر يقول...

يعععععععععععع

simple girl.. ..simple dream يقول...

انا طوول عمرى بكره القطر
بجد اركب عربية 8ساعات بس ماركبش قطر دقيقة واحدة
يمكن انا معقدة من كتر حوادث القطورات اللى بنسمع عنها
بس اهو انت كمان اسبتيلى ان عندى حق
القطر دة مش حلو

رئـــــيسـة حزب الأحلام يقول...

السلام عليكم
انتى لية مسمية المدونة بتاعتك الاسم دة وشكرا

Soooo يقول...

يااااه
من المفارقات العجيبه اني وانا باقرا الموضوع ده كنت حاسس اني فعلا في رحلة في القطر
واني في نفس الوقت باقرى المدونه بتاعتك كلها من اولها لغاية ما خلصت للاسف بآخر موضوع اللي هو الموضوع ده
----
اقولك على نصيحه .. لما انا بابقى مسافر ومش حاجز باحجز في القطر اللي جاي .. ولو هيطول او هيجي بعد فتره باروح على فندق اسمه افرست .. في كافيتيريا عباره عن سطوح العماره كلها .. بتشوفي منه ميدان رمسيس ووسط البلد كلها
اسألي عن الفندق هتلاقيه قريب قوي من المحطه
هو صحيح مش فايف ستارز .. لكن القعده في التراس نفسها متعه مابعدها متعه

سعيد اني قريت موضوعاتك كلها وعلقت على معظمها .. وبجد متضايق ان المدونه خلصت لاني فعلا كنت في رحلة حلوة قوي وماكنتش عايزها تخلص


ملحوظه
لو عايزه تعرفي انا ازاي وصلت لاني بقيت باتكلم معاكي وباعلق عندك في الموضوع ده بشبه حميميه وكأننا نعرف بعض من زمان .. يبقى الاحسن انك تقري تعليقاتي من تاني موضوع انتي كتبتيه





سلاموووووووووووووووز

Tarek Elkhatib يقول...

فتحاشيت النظر اليها حتى لا تجرحها نظراتى الفضولية- يااااااااااااه دة أنتى أنسان نادر الوجود !! أحنا فى زمن السماجة والبجاحة و لازم طبعآ تتعبى قوى وتستغربى !! ماهو أنتى فى دنيا غريبة غير اللى كنتى تعرفيها فى طفولتك

غير معرف يقول...

مشـــــــــــكورة


عرض سهل وبسيط لجزء من حياتنا اليومية في كل المجلات حين تخلي المسئول عن مسئوليته وتخلي الراعي عن رعايته وعن الفرد لمجتمعه ومن حوله


نحن وللأسف اصبحنا نشجب ونستنكر مما يحدث حولنا ولكن لم اجد من يقدم الحلول لتغيير هذا الظلام الي طريق النور ويقود الناس لتجاوز هذه المحن


وكلمة في سرك ( ماخفي كان أعظم )


ولكم مني سلام وتحية

مغرم .......... بالحياة البسيطة