عبر نافذة غرفة نومى لمحت القمر الناضج .. كان نوره عَفِى فاخترق ستارة النافذة الشفافة فى حياء .. ووصل الى سريرى.. وهمست نسمة هائمة فى أذنى بصفير ناعم كمناجة الأحباب .. فسرت كما المندوهة الى الشرفة.. يا لها من ليلة شتوية رائعة.. أضفت عليها زخات المطر المتباطئة عطر رومانسى.. فسكنتنى الطمأنينة وصعدت على إفريز الشباك القديم .. وفردت ذراعى .. وإخترقتنى موجة بادرة متوقعة.. فتنفست بعمق .. وشحنت رئتى بالهواء.. وسرت الى الأمام.. ولكن الهواء حملنى الى الأسفل .. ولم أفزع بل سعدت بالجاذبية .. فالأرض لا تستطيع فراقى .. أسعدنى طيرانى فى المساحة الفاصلة بين غرفتى و الشارع.. كنت كما المنتشية من فعل الحب .. رائقة البال.. تبتسم عيونى بلؤم أنثوى متوارى خلف هدوء ملامحى .. ولكن فجأة لسعنى البرد وغام ضوء القمر ومللت الطيران.. فإرتطمت رأسى برصيف الشارع ولكنى نهضت وأكملت السير فى عتمة تحاول أشعة القمر الفضية تبديدها ... كان جسدى ينرف بلا توقف وبلا ألم أيضاً .. تتبعتنى عيون العابرين دون استنكار لحالى .. وكأن حالى جزء من أحوالهم ..وسرت تاركة خلفى أثاراً واضحة من الدماء .. تتبعتها بعض الفتايات والنساء ... جميعهن يبدو عليهن الألم... وفجأة أصبحت أسير وسط جموع النساء.. خلفها ... ولم أعد أنا المرأة التى سقطت من النافذة... بل هى ... ولكنى كنت أنزف أنا الأخرى .. تفحصت نفسى بعناية ووجدت جرح مستتر بجوار الروح .. تفحصت الصبايا من حولى كان بكل منهن جرح غير واضح... وكانت هى تسير فى المقدمة.. متلألئة كعادتها... فهى السندريللا.. تنزف كعادتها فى الحزن دائماً .. لم أصدق عيناى أنى أراها رؤى العين للعين.. أقتربت أكثر وأكثر......
ورن جرس التليفون بعناد.. فأيقظنى رنينه المتواصل من نومى .. نظرت بلامبالاة الى شاشة إظهار الرقم.. وقرأت اسم «دعاء» صديقتى الصعيدية العنيدة التى بالبرغم من إختلافاتنا الشاسعة الا أنها دونت فى لوحى المحفوظ كصديقة عمر.. وجاءنى صوتها المرح بدون مقدمات البشر المعتادة:
- بت يا «حياة» يالا قومى البسى هاعدى عليكى ونروح «After Eight» (فى قاموس الصعايدة تحمل هذه الجملة الآمرة صيغة السؤال )
- مش عارفة... هايبقى دمى تقيل .. أصلى بردانة قوى... (وفى قاموسى يعنى هذا الرد الرفض المهذب)
- يالا أنت هاتعملى فيها أمينة رزق!! هاتيجى يعنى هاتيجى ... وماتقوليش لأ .. بصراحة بقى أنا النهارده هاعرفك على شخص جميل جداً..
- مين ده؟
- تعالى بس .. هو بنى آدم هايل .. وانت بقى اعرفيه زى ما تعرفيه.. فى كل الأحوال مش هايخَسَر... يا للا نص ساعة وهاعدى عليكى
... سلام.
وأغلقت صديقتى المهبوشة سماعة التليفون دون انتظار ردى... كانت أنفاسى مازالت متلاحقة من تأثير الحلم ب»سعاد حسنى»
نهضت من سريرى وفتحت نافذتى ربما تهدأ أنفاسى ... إرتكزت على حافة الشباك بمرفقى وأخذت أتأمل المبانى القديمة فى حى المنيل .. بدا النيل ساكناً.. كئيباً ....كان الجو شديد البرودة.. إنها إحدى ليالى شتاء القاهرة القارص.. ليلة ليس لها لون صريح... وفى مثل هذه الشعور اللالونى يزدهر الملل... ملل يغلفه إحساس رمادى... ليضاعف هذا اللون الغائم من شعورى بالوحدة.. ويساعد البرد على تكثيفها.. وسقطت قطرات ندية من عيونى... وتصاعد السؤال الأبدى الملازم لقشعريرة البرد: « وأيه آخرة الوحدة؟!»
وعاد الى الحلم ثانية ... لم أدرى أكان حلماً أم كابوساً؟! فلى مع «سعاد حسنى» تاريخ -لا ينسى- من طرف واحد. فعندما بدأت التمثيل فى مسرح الجامعة أطلق على أصدقائى اسم «زوزو» لا لأنى ابنة راقصة جامعية .. ولكن لعشقى ل «السندريلا» . فمنذ طفولتى وأنا مصابة بهوس لا شفاء منه أسمه «سعاد حسنى» كنت كلما رأيتها على الشاشة أصاب بالخرس طوال الفيلم.. ولم أجرؤ يوما على أن أفوت ميعاد عرض أحد أفلامها فى التليفزيون حتى وان كنت قد شاهدت ذات الفيلم عشرات المرات من قبل.. كنت أجلس فى صمت مصغية لكل كلمة .. منتبهة لأبسط لفتة.. مستمتعة بحضورها التليفزيونى والسينمائى الذى يحملنى الى حيوات شخصياتها الشيقة... تعلمت منها الرقص وحب الحياة والإنطلاق والبراءة والتلقائية .. كنت قد قصصت شعرى أيام الجامعة بقصتها الشهيرة وطوال عمرى أحرص على إنتقاء ملابسى - مثلها - بمعيارى الأنوثة والبساطة.. وكان التمثيل فى مسرح الجامعة لا لحبى للتمثيل ولكن لحبى لها فبالتمثيل وحده ستتاح لى فرصة تقمص روحها المنعشة التى كانت تغمرنى بطاقة عبقة بمختلف معانى الحياة..
ومنذ منتصف الثلاثينيات -وبعد وفاتها - وأنا أتحاشى مشاهدة أفلامها .. وكلما رأيتها مصادفة على الشاشة أبكى بحرقة من فقد أعز ما ملك.. و ترعبنى فكرة الرابط الخفى بينى وبين روحها.... أخشى أن أواجه نفس المصير الذى آلت اليه.. ليس الموت هو المصير الذى أقصده فأنا لا أخشى الطيران بل جل ما أخشاه هو الوحدة والعزلة بعد زوال الأنوثة الشابة .. الآن فقط استوعبت معنى الحلم بها وأيقنت الآن أنها أحبتنى كما أحببتها .. فأطلعتنى حلماً على سرها.
ولكن أين هى «زوزو» -المحبة للحياة- منى الآن؟! لماذا أخذها الخوف بعيدا عنى؟ أريد أن أعود ولو ليلة واحدة «زوزو بتاعة أيام زمان» .. أليست السعادة قرار كما أخبر أصدقائى عندما أرتدى قبعة الواعظ... لماذا لا إطبق نظرياتى إياها فى الحياة اليوم؟
سأصدر فرمان ملكى بالسعادة اليوم.. الماضى انتهى .... والحاضر أهدره فى النواح.. وأن لم أكن سعيدة الآن فكيف أفكر فى السعادة فى مستقبل لم أملكه بعد.... سأنتزع السعادة من البرد. اليوم أنا «زوزو» نفضت عنى ثقل العقل .. وقررت أن أحيى الليلة فى اللامعقول.. من الآن وحتى الساعات الأولى من الصباح أنا «زوزو».... الى After Eight والله يرحم «أمينة رزق».
ورن جرس التليفون بعناد.. فأيقظنى رنينه المتواصل من نومى .. نظرت بلامبالاة الى شاشة إظهار الرقم.. وقرأت اسم «دعاء» صديقتى الصعيدية العنيدة التى بالبرغم من إختلافاتنا الشاسعة الا أنها دونت فى لوحى المحفوظ كصديقة عمر.. وجاءنى صوتها المرح بدون مقدمات البشر المعتادة:
- بت يا «حياة» يالا قومى البسى هاعدى عليكى ونروح «After Eight» (فى قاموس الصعايدة تحمل هذه الجملة الآمرة صيغة السؤال )
- مش عارفة... هايبقى دمى تقيل .. أصلى بردانة قوى... (وفى قاموسى يعنى هذا الرد الرفض المهذب)
- يالا أنت هاتعملى فيها أمينة رزق!! هاتيجى يعنى هاتيجى ... وماتقوليش لأ .. بصراحة بقى أنا النهارده هاعرفك على شخص جميل جداً..
- مين ده؟
- تعالى بس .. هو بنى آدم هايل .. وانت بقى اعرفيه زى ما تعرفيه.. فى كل الأحوال مش هايخَسَر... يا للا نص ساعة وهاعدى عليكى
... سلام.
وأغلقت صديقتى المهبوشة سماعة التليفون دون انتظار ردى... كانت أنفاسى مازالت متلاحقة من تأثير الحلم ب»سعاد حسنى»
نهضت من سريرى وفتحت نافذتى ربما تهدأ أنفاسى ... إرتكزت على حافة الشباك بمرفقى وأخذت أتأمل المبانى القديمة فى حى المنيل .. بدا النيل ساكناً.. كئيباً ....كان الجو شديد البرودة.. إنها إحدى ليالى شتاء القاهرة القارص.. ليلة ليس لها لون صريح... وفى مثل هذه الشعور اللالونى يزدهر الملل... ملل يغلفه إحساس رمادى... ليضاعف هذا اللون الغائم من شعورى بالوحدة.. ويساعد البرد على تكثيفها.. وسقطت قطرات ندية من عيونى... وتصاعد السؤال الأبدى الملازم لقشعريرة البرد: « وأيه آخرة الوحدة؟!»
وعاد الى الحلم ثانية ... لم أدرى أكان حلماً أم كابوساً؟! فلى مع «سعاد حسنى» تاريخ -لا ينسى- من طرف واحد. فعندما بدأت التمثيل فى مسرح الجامعة أطلق على أصدقائى اسم «زوزو» لا لأنى ابنة راقصة جامعية .. ولكن لعشقى ل «السندريلا» . فمنذ طفولتى وأنا مصابة بهوس لا شفاء منه أسمه «سعاد حسنى» كنت كلما رأيتها على الشاشة أصاب بالخرس طوال الفيلم.. ولم أجرؤ يوما على أن أفوت ميعاد عرض أحد أفلامها فى التليفزيون حتى وان كنت قد شاهدت ذات الفيلم عشرات المرات من قبل.. كنت أجلس فى صمت مصغية لكل كلمة .. منتبهة لأبسط لفتة.. مستمتعة بحضورها التليفزيونى والسينمائى الذى يحملنى الى حيوات شخصياتها الشيقة... تعلمت منها الرقص وحب الحياة والإنطلاق والبراءة والتلقائية .. كنت قد قصصت شعرى أيام الجامعة بقصتها الشهيرة وطوال عمرى أحرص على إنتقاء ملابسى - مثلها - بمعيارى الأنوثة والبساطة.. وكان التمثيل فى مسرح الجامعة لا لحبى للتمثيل ولكن لحبى لها فبالتمثيل وحده ستتاح لى فرصة تقمص روحها المنعشة التى كانت تغمرنى بطاقة عبقة بمختلف معانى الحياة..
ومنذ منتصف الثلاثينيات -وبعد وفاتها - وأنا أتحاشى مشاهدة أفلامها .. وكلما رأيتها مصادفة على الشاشة أبكى بحرقة من فقد أعز ما ملك.. و ترعبنى فكرة الرابط الخفى بينى وبين روحها.... أخشى أن أواجه نفس المصير الذى آلت اليه.. ليس الموت هو المصير الذى أقصده فأنا لا أخشى الطيران بل جل ما أخشاه هو الوحدة والعزلة بعد زوال الأنوثة الشابة .. الآن فقط استوعبت معنى الحلم بها وأيقنت الآن أنها أحبتنى كما أحببتها .. فأطلعتنى حلماً على سرها.
ولكن أين هى «زوزو» -المحبة للحياة- منى الآن؟! لماذا أخذها الخوف بعيدا عنى؟ أريد أن أعود ولو ليلة واحدة «زوزو بتاعة أيام زمان» .. أليست السعادة قرار كما أخبر أصدقائى عندما أرتدى قبعة الواعظ... لماذا لا إطبق نظرياتى إياها فى الحياة اليوم؟
سأصدر فرمان ملكى بالسعادة اليوم.. الماضى انتهى .... والحاضر أهدره فى النواح.. وأن لم أكن سعيدة الآن فكيف أفكر فى السعادة فى مستقبل لم أملكه بعد.... سأنتزع السعادة من البرد. اليوم أنا «زوزو» نفضت عنى ثقل العقل .. وقررت أن أحيى الليلة فى اللامعقول.. من الآن وحتى الساعات الأولى من الصباح أنا «زوزو».... الى After Eight والله يرحم «أمينة رزق».
يتبع