فى الصف الدراسى الثالث الأبتدائى عرف لنا أستاذ إبراهيم أستاذ اللغة العربية والمواد الأجتماعية الوطن بأنه مكان إقامة الأنسان ومقره، ولد به أم لم يولد.. واستنتجت حينها أن مصر هى وطنى. وعشت فى طفولتى ومراهقتى أردد «مصر هى أمى نيلها جوا دمى، شمسها فى سمارى شكلها فى ملامحى، حتى لونى قمحى، لون خيرك يا مصر، مصر.. مصر» ولكن بانتهاء دراستى الجامعية تلاشت أوهامى وصدمت بواقعنا الفج، لم أجد مصر هى الأرض التى أستطيع العيش بها أو عليها. فتطلعت لوطن آخر يحضن أحلامى البكر, أرض تحقق لى سعادتى المرجوة، وكانت أمريكا هى أرض الأحلام فى ذلك الحين. وصرحت للجميع بأنى خلقت لأكون أمريكية، فلا يوجد فى أرضى الحالية من يستطيع تفهم عقليتى الفذة، وأطلقت على مصر اسم «الصفيحة». آشارة الى صفيحة الزبالة. فهي مستنقع الشكاوى حيث الفساد بفروعه المتنوعة والفقر والقهر والبطالة وتدهور الأخلاق العامة لصالح الماديات، نعم نحن أصحاب حضارة عريقة ولكنا للأسف لا نملك مستقبل مشرق ولا مال ولا بشر. وحدهم المصريين يشيرون الى مصر بأم الدنيا. ولكنى أبداً لم تربطنى بأمى «التى هى من لحم ودم» علاقة حميمة. فحدثتنى نفسى: اذا كانت أمى اللى هى أمى بجد مش واخدة بالها منى.. فما بالك بأم من حجر.. وكان الرحيل الى أرض الأحلام
رحيلاً رحيلاًًًً بغير هوادة
رحيلاً فإن الرحيل سعادة
عبادة
إرادة
سيادة
ولادة
فى أمريكا عشت فى غاية السعادة والأنطلاق. ففى أرض الأحلام كانت تكمن مفردا ت سعادتى.. حيث العمل الجاد والمال والحرية والديموقراطية والأصدقاء وراحة البال... عشت مأخوذة من النظام والنظافة والحياة السريعة الصاخبة والدولارات وكافة أشكال الأنطلاق تماما كما حلمت بها.. ونهلت من مصدر سعادتى لأشهر طوال. كنت أستيقظ فى الخامسة صباحا أستقل الأتوبيس الى مقر عملى.. الذى يبعد بساعتين عن سكنى. أعود فى الثامنة مساءا منهكة القوى.. أهاتف أصدقائى يومياً للخروج والتنزه والمشاركة فى الحياة الثقافية فى قلب عاصمة المال والحرية. ولكن بعد عده أشهر تبدل حالى فلم أعد أقوى على الخروج حتى فى الأجازة الأسبوعية. فقدت متعة السهر.. وأصبحت أمل الأماكن خصوصا الصاخبة منها. حتى الأعمال الفنية وجدتها فاترة شديدة البعد عن ذوقى، بمرور الوقت أصبحت أرى الحياة مملة وروتينية.. كل شئ متشابه.. طعم الحياة ماسخ.. الوجوه متشابهة، الطعام بلا مذاق، والعمل مرهق، ولا رحمة فى أرض الأحلام، وعلى أى فرد أن يكون متيقظ طوال الوقت. فقدت عزيمتى التى هى كل رأس مالى. أصبحت متجهمة دائما وأبدا.. أشتقت لأمى -برغم قسوتها- أشتقت لأخوتى ، بدأ الحنين يأكل قلبى. تكاسلت عن كل شئ. الا عن العمل. ولكنى كنت أؤديه بفتور واضح. أصبحت أعود من العمل أستلقى على الأريكة أمام التليفزيون حتى يغلبنى النعاس.. لأستيقظ فى الصباح التالى - بعد ليالى يملأها الأرق - لأؤدى عملى بلا همة.
قلت أنشطتى الأجتماعية تدريجياً الى أن أنعدمت. فنصحنى أحد الأصدقاء بعد أن أصبحت منعزلة تماما بداخلى بزيارة طبيب أمراض نفسية للحديث معه. واستجبت بلا حماس. وبعد جلسات معدودة نصحنى الطبيب بالعودة الى بلادى لأنى أعانى من حالة متقدمة من الإكتئاب سببها الحنين الى الوطن. ضحكت مستنكرة وأخبرته أنى أبدا لم أشعر بالإنتماء الى بلدى وأنى أطلق عليها اسم الصفيحة فأخبرنى أن البشر فى كثير من الأحيان لا يعرفون قيمة الأشياء و الأشخاص والأماكن الا عند فقدها أو الإبتعاد عنها ونصحنى بالعودة فى أجازة قصيرة الى الصفيحة وبعدها أتبع أحساسى أينما يقودنى.
زرت مصر فى أجازة قصيرة وبدون أي مقدمات وبلا أى سبب يذكر عادت الى طبيعتى التى تاهت منى فى شوارع نيويورك. عادت الى ضحكتى التى فارقتنى وأنا غافلة عنها. وجدت سعادتى المفقودة. مازالت كل الأشياء التى عانيت منها فى مصر على سابق عهدى بها. ولكن أحساس الألفة بالأشياء والوشوش أعاد لى طمأنينة لا وجود لها على أرض الأحلام. أصبحت أنام ملئ جفونى دون أن أخشى شئ. عادت روح الفكاهة الى كلماتى. شعرت وكأن روحى المسلوبة قد ردت الى بعد موات طال وسخف. أيقنت حينها أن أمريكا هى حقاً أرض الأحلام ولكنها أحلام مستنسخة.مرتبطة داذما بالأشياء أما الإنسان ففقد قيمته الحقيقية وأصبح مجرد ترس فى ماكينة الرأسمالية الأمريكية التى تعزز «دولة الرفاهية» المدارة بالقروض الميسرة والتى تسهل شراء كل شى, حتى الأجازات تقضى بالقروض. ثم يربط الفرد فى ساقية السداد الى نهاية العمر .. دائرة لا نهاية لها. وبمجرد دخولها يصبح الفرد مجرد ترس فى ماكينة عظمى و لا يملك حق التوقف متى شاء.
فعدت نهائياً الى الصفيحة وكلى حنين وحب.. كقطة شريدة وجدت قوتها ومأواها فى الصفيحة
احبها وهي مالكه الأرض شرق وغرب
وباحبها وهي مرمية جريحة حرب
باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء
واكرها والعن أبوها بعشق زى الداء
ومرت سنوات عديدة وظهرت فى الأقق العالمى محطة جديدة للأحلام.. عاصمة جديدة لرأس المال, ولكنها هذه المرة عاصمة عربية.. دبى.. فهاجر طيور البيزنس الى عش جديد وطرت مع سرب الحالمين أصحاب السترات الأنيقة وأربطة العنق باهظة الثمن. دون أن يغلبنى الحنين, هذه المرة أنا فى أرض أحلام شقيقة، على الأقل سأنعم بالحديث بلغتى الأم. و بعد ثلاثة أشهر -رغم المال الوفير الذى كنت أتقاضاه- ويصرف بأكمله على الحياة باهظة التكاليف. كنت أسير فى الشارع - رغم حرارة الجو الخانقة - وأنا أصرخ:
- عايزة اشوف تراب.. عايزة أشوف مبانى قديمة.. عايزة أشوف زبالة علشان أتأكد أنى عايشة.. هو احنا عايشين فى«فيديو جيم»..؟! هى الحياة دى حقيقية؟!.. كل حاجة حواليا بلاستيك.. مافيش روح ؟!!
كنت أشعر كأنى أعيش داخل فيلم «ماتريكس» كل شئ غير حقيقى.. وكدت أجن من البشر المسحوبين فى دوامة الماديات حيث كل شئ له ثمنه.. أحلام البشر لا تتعدى الحلم ببيت وسيارة وأجهزة اليكترونية حديثة ويخوت وسهرات.... وفقط
أفتقدت كل أصحابى.. أفتقدت شوارع القاهرة العتيقة.. وبالأخص شوارع وسط البلد... الكنائس.. الجوامع.. كلاب الشوارع الضالة التى تؤنسنى وأنا عائدة الى بيتى.. قطط العمارة التى تعيش على صفائح القمامة .. وجوه المصريين المميزة والملفوحة بلون الشقاء... أشتقت للأسكندرية ومرسى علم وسيناء.. أشتقت لتفاصيل طبيعة بلادى التى هجرتها لأعيش فى مبانى مكيفة على مدار أربع وعشرين ساعة
فهجرت -دبى- هذه المدينة المستنسخة التى يتباهى قادتها بتكديسها ب «أفعل التفضيل» فى العالم دائما. فبها «أعلى» ناطحة سحاب فى العالم و «أكبر» مجمع تجارى و «أضخم» مدينة ملاهى و «أمهر» الأقتصاديين و «أوسع» صالات المؤتمرات و «أضخم» الفنادق فى العالم ... إلخ من الأعظم والأفضل فى العالم. وهربت قبل أن تدهسنى عجلاتها الى مصر -وطنى- وأنا مليئة بيقين الحب والإنتماء هذه المرة.. فمازلنا -نحن المصريين - بشر لنا طابعنا الخاص وهويتنا الفريدة.. قاطعت المطاعم والمنتجات الأمريكية.. وكرهت العولمة والرأسمالية التى مسخت معالم الشعوب.. لتقربها من الحلم الأمريكى الذى أكتشفت أنه ليس سوى كابوس دائرى يصعب الفكاك منه
الآن أفخر عن أيمان بأن مصر هى وطنى. ولكن للوطن تعريف خاص فى تجربتى الشخصية فهو الأمان والألفة وأنتماء الأفكار وأنتعاش الروح وليس هو مقر أقامة الفرد كما علمنى أستاذ إبراهيم مستندا الى تعريف المعجم الوجيز التابع لمجمع اللغة العربية فى طبعتة الخاصة بوزارة التربية التعليم
الآن عن يقين أسلم مع العظيم «صلاح جاهين» بأن:
شبكة رادار قلبي جوه ضلوعي مظبوطة
على اسم مصر