السبت، 17 يناير 2009

صدفة



دخلت «ورد» حفل الكريسماس لتجد حشوداً من الأجانب، معظمهم من الفنانين أو خبراء الشركات العالمية المقيمين فى مصر. ومجموعة لا بأس بها من رجال الأعمال المصرين، الجميع -نساء ورجال- متأنقين. كل بطريقته.. فالتأنق مدارس. ولكل منهجه وسلوكه. فمعظم الرجال فى بدل داكنة والنساء يتألقن فى فساتين السهرة. ما بين التنورات القصيرة و»السواريهات» الكاشفة لمفاتن الصدور والسيقان والأرداف.. وهناك مجموعة من الغير تقليدين يرتدون الجينز ولكن بشكل لائق لحفلة مسائية.. كل يتألق بطريقته.. آما «نورا الأمورة» الراقصة الأرجنتينية ،صاحبة الحفل فهى كالمعتاد تبالغ فى أظهار أنوثها.. فهى الليلة ترتدى فستان أسود شفاف مطرز من أعلاه الى أسفله.. تستطيع عبر التكوينات الخرزية أن ترى حدود «الجى سترنج» والسوتيان الأسودان اللذان ترتديهما.. تضغ أقراطا ماسية يجذب ثقلهما حلمتى أذنيها بقسوة.. لتُشهد الحضور ثراءها وأنوثها فى كل ما ترتدى.

مرت «ورد» بين الجموع فى شقة نورا الواقعة فى الدور الثلاثين فى أحد أبراج كورنيش المعادى.. كانت تشعر وانها انتقلت الى أرض أخرى غير أرض مصر.. تتهكم بداخلها قائلة: هما الأجانب إحتلوا البلد أمتى؟ تبتسم وتتبادل أطراف الحديث مع هذا تاره وهذه لبضع دقائق.. فهى لا ترى سوى عدد قليل جدا من المصريين.. أما النساء المصريات فلا وجود لهن فى بيت الراقصة الأجنبية... ف "ورد"هى الصديقة المصرية الوحيدة لنورا منذ انتقالها للعيش بمصر منذ أكثر من عشر سنوات.

تجول ورد بين الحضور كفراشة رقيقة.. وتتبعها العيون.. فهى جميلة دون شك.. وأجمل ما فى جمالها هو الطابع الشرقى الخاص جداً الذى تلمح تقديره فى عيون الناظرين... لطالما عاشت على أنها متوسطة الجمال.. لم تكن أبدا نموذج للجمال بين أبناء وطنها.. أما الآن وهى بين جموع الأجانب تعلم أنها جميلة جداً.. فشعرها المتموج الذى طالما أشارت له العيون فى طفولتها بالأشعث.. الآن فقط هو مصدر جمالها.. ليس كل جمالها بل بعضه.. فسمرتها النيلية فى هذا المجتمع البديل ما هى سوى محض جمال أستثنائى.. جمال من نوع خاص جداً.. ولقوامها الممتلئ بعض الشئ وأستدارته الوضحة بصمة خاصة بين الأجساد النحيلة للباقى نساء الحفل.. أخذت تطوف بين هنا وهناك..تشع جمالا تلحظه العيون.. تشارك فى حوارات عبثية لإناس لا تعرفهم عن قرب.. جابت عينيها البيت الذى تحفظه ذاكرتها.. لم تكن تتفقد البيت.. بل كانت تبحث عنه.. عن «عُلَّى».. تعلم أنه سيحضر..

فلهذا البيت وهذه الحفلة وهذا التاريخ من كل عام ذكريات مشتركة بينهما.. شهد هذا البيت لقائهما الأول..وحبهما المستتر عن العيون.. وانتهاء حبهما بعد مرور السنين.. وحتى بعد الفراق .. دائما ما كانا يتقابلان فى صدف مدبرة.. فلعلاقتهما تاريخ حافل من الخناقات ..شهد هذا البيت معظمها.. ربما كان يتصنعان الخلاف .. كى يتصالحا بعده .. فللسانها الحلو فعل السحر على عقله مسلوب الإرادة فى حضرتها.. تقابلا صدفة فى هذا البيت.. هو أستاذ جامعى.. وهى موظفة فى شركة كبرى.. تقابلا بلا موعد.. صدفة.. وأفترقا تدبيراً.. كان يخشى أن يسرق هو سنوات عمرها.. عشقها بشكل استثنائى لسنوات عمره الأربعين.. وهى أحبته بكل شبابها النضر.. خشى عليها من فعل العمر.. ومن تقلباته المزاجية الحادة.. التى قد ترسله بعيداً عنها ذات يوم فى مستقبل بعيد أو قريب.. فهو ابداً لا يدرى شيئا عن نفسه.. ولكن واثق من شئ واحد أنه لا يريد تكرار تجربة الزواج التى تركت له فى عنقه مسؤلية مطلقته وابنته التى مازال يشعر بالذنب فى عدم قدرته على توفير حياة طبيعية لكليهما بعد غدره بهما كما تتهمه مطلقته... أما ورد فبداخلها شراسة تجاه كل ما يستعصى عليها.. وكأن الحياة فى تجربتها القاسية «تُؤخذ بالذراع» .. ولكنهما لم يقاوما دوامات الهوى التى سحبتهما بداخلها.. فدارا متعانقين الى أن سحبهما الدوار ليسقطا فى قاع الهوى السحيق.

وكان الفراق واجب لابد من أدائه.. فلا هو يستطيع أن يؤمن نفسه لها ضد آدميته ولا هى تستطيع الإستغناء عن حلم الأمومة.. وإفترقا بمرارة من جانبه وعنف ومرارة أكبر منها.. لم يغفر لها رعونتها ولم تسامحه يوما على دموعها التى ما تزال تروى خدودها الخمرية فى كل مرة تتأكد أنها مازالت تقف فى محطته وكأن جميع الحافلات لا تتجه الى مسارها.. رحل هو.. وأصرت هى أن تفوته.. فطريقهما أبداً لم يكن واحداً.. هى تريد الذهاب الى الجنة كما تحلم.. أو كما علموها أن تحلم.. وهو لم يعد يؤمن بالجنة على الأرض.. وله مشاوير سابقة تعلم منها أن الجنة «حلم» لابد أن يبقى فى الأذهان.. كى يتحمل البشر وعورة الطرق.. صدمها عندما أبلغها أن الجنة وهم.. وأن الجواز يقتل الحب بروتينيتة التى لا فرار منها وبكت بحرقة شديدة وقالت له:
-سيبنى أتأكد بنفسى.. ليه تحكم على تجربتى بالنقصان.. عقلى بيقول لى ان الجنة حلم .. بس جوايا اللى بتسميه انت «بخبرتك» سذاجة الحالمون.. باحلم انى أحقق اللى ماحدش قدر يحلم بيه
كانت ترى فى عيون كل المحيطين بها من المطلقين والمتزوجين بقايا أحلامهم «بالجنة» التى تكسرت فى مطبات الحياة وعلى أبواب الزواج.. ولكن تجربتها الذاتية أبداً لم تكتمل.. قالوا لنا جميعا ونحن صغار أن النار تحرق.. من منا لم بقربها؟! من منا لم يحلم يوما أنه ربما يكون «إبراهيم» آخر لا ينكوى بالنار؟! من منكم لم يجرب بنفسه؟

قتل «عُلَّى» حلمها فى الحب.. فجرحته «ورد» وهربت قبل أن يتحقق ما قالته له عن كرهها له.. كل امرآة تقول لرجل أكرهك.. عليه أن يعلم أنها متيمة عشقاً.. فالمرآة عزيزى الرجل تفتقر الى التمييز بعض الشئ خصوصا فى المشاعر.. تلتبس عندها المعانى ..ولكنه إلتباس حميد.. أساسه عمق الإحساس

جالت ورد بعينيها فى المكان تبحث عنه.. وعندما وجدته تلعثمت وأضطربت كأنها أبداً لم تتوقع رؤيته.. يالا عجب النساء!! ألم ترتدى هذا الثوب تحديدا لأنها تعلم أنها ستقابله!! تعلم أنه يهوى النظر الى صدرها الفتى فارتدت هذا الديكولتيه الصارخ كى تأسر عيونه.. ألم تأتى الى هذا الحفل لتقابله!! ألم تتزين لأنها تريد أن يراها جميلة ومثيرة كعادتها معه!!

أرتبكت ورد عندما شاهدته فى البلكونه المطلة على النيل وتوترت حركتها بعض الشئ.. وسحبت نفسها الى الحمام وهى مازالت تحمل فى يدها كأس النبيذ الأحمر.. هربت الى الحمام .. تأكدت من إغلاق الباب خلفها.. ونظرت الى انعكاس صورتها فى المرآه على ضوء الشموع التى اهتزت اضاءتها بفعل تيار الهواء الذى صنعته حركة الباب عند أغلاقه.. وأرتشفت جرعة كبيرة وسريعة من النبيذ وسحبت شهيقها بعمق من لم يتنفس فى الثوانى السابقة وربما التالية.. كتمت نفسها فى صدرها لبضع ثوان وأطلقته من فمها فى بطء مريح بعض الشئ.. كانت كمن يدرب أنفاسه كى لا تتأثر بأفعالها القادمة.. وخرجت لتواجه الحفل .. أتى اليها .. اقترب منها بتحفظ الوجل.. وأرسل سلامه فى أشارة يد بعيدة .. كان وسيما كعادته.. وكانت أنثى ككل لحظاتها.. لم يكن لديه شجاعتها .. فقررت الأقتحام وطالبته أن يتحدثا على أنفراد.. لمسته.. لتوقظ حبها المخبأ بين ثناياه وهى تقول:
- أحبك لا لشئ يفهمه العقل... أحبك ولطالما تشاجرت معك.. أحبك لأنك فتحت طاقات خفية فى روحى لم أكن أعلم عنها يوماً شئً.. أحبك بالرغم من كل شئ... أحبك لأنى أحبك وفقط
انه الحب أيها السادة.. عفوا فلا سادة فى وجود الحب.. فالجميع عبيد والحب هو السيد الوحيد.. فان اردت السيادة على عقلك فكبل القلب بعيدا عن الحب.. جاوبها بعناد الخصوم فى بداية الأمر ولكن سرعان ما لان من فعل أناملها التى مازالت تلمس يده منذ السلام الأول.. وأحترقت أنفاسه وخرجت لهيبا وهو يقول:
-أحبك يا نورى.. بلا خجل.. وبلا تردد.. ولكن بالكثير من الشجن.. فأنا نايك الحزين.. ماأنا يا عمرى الا قطعة «بوص» وأنت الوحيدة صاحبة موهبة العزف عليها .. وبدونك لا أكتمل..

مالت عليه فى الحال تقبله والتهم شفتيها برقته المعهودة ونسىا الجميع.. لم يكن ذلك من طبعه فهو يخجل أن يعبر عن إحساسه أمام الناس.. كيف له وهو الأستاذ الجامعى ان يراه أحد -حتى وأن كان لا يعرفه- فى موقف ضعف.. أعنى فى لحظة حب..
لم يكترثا كثيرا بالحفل ولا بناسه ولا طعامه الآرجنتينى الذى تجيد نورا الأمورة طهيه ولا برقص نورا أو أى من جميلات الحفل.. اللاتى لم ينسى أن تمر عيناه عليهن مقدراً جمال عيون هذه ورقة تلك.. ولكن لعيونه أن تفعل ما تشاء أما قلبه فهو بيتها الذى لا تملك مفاتيحه سواها

كم تعشق هى «على» بمكره.. وصعلكته.. ورقته.. ووسامته.. ورقيه ..هى فقط تحبه.. ولم يعد يعنيها الأمل فى حبه.. كل ما تريده هو أن تبثه مشاعرها فى هذه الليلة فقط.. إلتقطها بين ذراعيه النحيلتين وضمها الى صدره ورقصا متعانقين حتى أنصراف الجميع.. وتنبها الى الهدوء من حولهما.. ونظرا حولهما لم يجدا سوى «نورا» تنظر أليهما بشغف مليئ بالغبطة.قررت ورد الأنصراف.. وطالبها «على» بمهاتفته ذات يوم ربما ... فاض نهر حنان من قلبها ولمسه حتى لانت أفكاره وهى تقول:

-سأقابلك صدفة دون مواعيد مسبقة.. أعلم أن الكون سيرسلك لى فى مكان آخر.. لن أهاتفك.. لن أسعى للقائك .. ولكنى أعلم عن يقين أنه آت.. فلا تفزع عندما ترانى صدفة فى يوم ما

ضحكا وتعانقا وقبلا الخدود والشفايف.. كانت لحظات من نور.. وأفترقا ليتقابلا صدفة من جديد.. كلاهما يملأه اليقين بأهميته عند الآخر.. وكلاهما يشكان فى إمكانية أن يكون الحب بمثل هذه الرحابة.. ومجردا من أى غاية

هناك 8 تعليقات:

السنونو يقول...

"إمكانية أن يكون الحب بمثل هذه الرحابة.. ومجردا من أى غاية"
هو هكذا تماماًوإلا فهو أى شئ آخر سوى الحب

77Math. يقول...

حلوة جدًا القصة

بس الرجل اسمه "عليّ" ؟ولا أنا اتلخبطت ؟

بجد تسلم إيدك ..

غير معرف يقول...

سأقابلك صدفة دون مواعيد مسبقة.. أعلم أن الكون سيرسلك لى فى مكان آخر.. لن أهاتفك.. لن أسعى للقائك .. ولكنى أعلم عن يقين أنه آت.. فلا تفزع عندما ترانى صدفة فى يوم ما


بجد القصة كلامها تحفة!!!!!


تحياتي

V.Hayat يقول...

كما توقعت

Tamer Elkhatib يقول...

انت رائعة جدا جدا جدا فى الكتابة( بجد تحفة اخر حاجة)
صادفت مدونتك و توقفت كثيرا عند كتابتك و قرأت بعض منها عدة مرات و لم انتهى بعد من المدونة. مدونتك جديرة بأن تكون كتاب. و موهبتك تنبئ بكاتبة و روائية. لا تتوقفى عن الكتابة.

انا مختلف معاكى شويا فى المضمون لانك دمرتى نصف العالم اللى انا منه (الرجل). بس انتى بتوصفى الاغلبية منهم بطريقة ادبية ممتعة. ربنا معاكى و تلاقى رجل بجد. بس لو حتبطلى كتابة خليكى عانس و متعينا. تضحية من اجل عامة الشعب. مع انى حاسس لو حبيتى ممكن تكتبى احلى يوميات حبيبة.

Brownie يقول...

very beatiful but noway to happen

Tarek Elkhatib يقول...

وردة ,,, لقد قضيت رأس سنة رائعآ بشكل تحسدين علية ,, فقد كان معك بكل جوارحه نصفك الأخر ولتذهب كل العقليات والحسابات والمشاكل إلى الجحيم ,, فقد كنتم سويآ وهو عطاء وسعادة لا تتوفر كثيرآ فهنيئآ لك

Games Online يقول...

wow i like your writing
goodluck