الأحد، 19 أبريل 2009

الحجيجة

آه ما أقسى الجدار
عندما ينهض في وجه الشروق

سمعت هذا البيت من قصيدة حكاية المدينة الفضية لأمل دنقل، وأنا أسير فى الممر المؤدى الى غرفتى فى المدينة الجامعية. كان الصوت خارجا من غرفة رقم 12، التى تسكنها بعض الزميلات. دخلت الغرفة على الفور دون أستئذان، فقد كان -ومايزال- الشعر نقطة ضعفى. وجدت فتاة صعيدية واثقة فى نفسها تلقى الشعر على شلة من الفتايات. وبعد الشعر طال حديثها عن حلمها بالصحافة. وحكت أنها تعمل فى إحدى الصحف الأسبوعية. ولم تكن أعمارنا تتعدى السادسة عشر فى ذلك الوقت.

أستوقفتنى هذه الصحفية الصعيدية الجميلة بقوة شخصيتها وأصبحنا صديقتين. كنت فيما بعد أتحين الفرص بعد العشاء والتمام المسائى وأذهب الى حجرتها فى المبنى الرئيسى، وهو نفس المبنى الذى أسكن به. أغرمت بحكاياتها عن الصعيد وأهله وعن أخيها الطبيب والشاعر الذى إختصته بمعظم الحكايات.. روت له وعنه أشعاراً.. أحببته من ذكريات طفولتها ومراهقتها معه. حفرت هذه الحكاية -على لسانها- ملامحه الأنسانية فى خيالى:
فى يوم رجعت من المدرسة فى غاية السعادة.. بتنطط من الفرحة.. سألنى أحمد أخويا عن السبب فحكيت له:
-النهاردة مدرس الرياضيات حط مسألة صعبة قوى على السبورة وقام ولد يحلها وما عرفشى... راح المدرس مشاور لى وقال لى قومى انت حليها.. وحلتها صح فقال الأستاذ للولد:
-مش عيب عليك وقفتك دى.. بص دا البنت حلت المسألة!!!
وسألنى أحمد وأنت مبسوطة أنه قال كده؟
-طبعاً
-يا حبيبتى الجملة دى معناها: شوف دا حتى الكائن اللى أقل منك حلها.. وأنت مش أقل ذكاء ولا مقدرة من الولد علشان تفرحى بالجملة دى.. أنت زيك زى الولد وأحسن كمان.. أوعى تخلى حد فى يوم من الأيام يحسسك انك أقل منه علشان انت بنت.

أيدنى أحمد -دون سابق معرفة شخصية- فى رفضى للمعاملة التى أتلقاها كفتاة فى بيئتى الريفية التقليدية التى تفرق بين الولد والبنت. أيدنى -فى كافة حكايات أخته عنه- فى معان وقيم أخرى طالما حلمت بها فى الحياة. فأحببت -دون تردد- هذا، الطبيب، اليسارى، الصعيدى،المثقف، الذى يعيش حياته بالطب والناس والأدب

وفى يوم قالت لى صديقتى: أحمد مسافر بكره ليبيا وهايعيش هناك.. وهو هنا النهادرة فى القاهرة لآخر يوم.. تعالى أعرفك عليه.
تزينت لأقابل فارسى أحلامى.. الذى أعرف عنه الكثير, وهو لا يعرف عنى شئ. وذهبت معى صديقتى الى قهوة فى وسط البلد، وهناك شاهدته.. كان أسمر بلون الجنوب.. مديد القامة بكبرياء.. له ملامح حادة.. توحى ببعض القسوة ولكن نظرة عينيه بها سر ضعفه وحنينه.. لمحت فى عينيه الهموم.. هموم خاصة.. هموم أسرية.. هموم وطن بأكمله، و ألم مستتر خلف نظرة عينيه المنطلقة.

تعارفنا ببساطة وبعد فترة وجيزة، حان موعد أغلاق بوابة المدينة الجامعية وأسرعت أخته تستعجلنى. وأحمد سيسافر غداً الى ليبيا ولا خطة لرجوعه فى بحور السنوات القادمة.. اذا هى فرصتى الوحيدة لأعرفه اليوم ربما لن أراه حتى مماتى.. فقررت البقاء مع أحمد ولتذهب قوانين المدينة الجامعية الى الجحيم.. وطلبت من صديقتى أن تمضى بالنيابة عنى فى دفتر التمام المسائى حتى لا يفتضح أمرى. وسأهيم على وجهى حتى الصباح الباكر مع حلمى الخاص فى شوارع القاهرة.

ذهبنا الى بار «على بابا» وكانت أول مرة أدخل بار. جلست أمام أحمد بجثته الضخمة,كتلميذة ترقب أستاذها عن قرب. كان يشرب البيرة دون أن تمر على لسانه. يرسلها فى جرعات الى حلقه. سألته ببراءة:
- أنت بتحب طعم البيرة؟
-الحجيجة «الحقيقة» لأ.. مرارة البيرة بتنسينى مرارة الحياة وجسوتها «قسوتها»

أستمعت الى حكاياته عن أمه.. أبيه.. أخوته البنات.. دراسته فى كلية الطب.. أحلامه فى عالم مليئ بالحب.. جنونه.. لم يخجل فى فتح قلبه لعابرة سبيل فى دنيا الهوى. كلانا يعلم أنها ليلة واحدة.. حكى عن كل شئ.. حكى عن خطيبته.. عن حلمه فى الحياة.. تقاربنا.. كنت أعرفه جيداً. لم يكن غريباً عنى. كنت أكمل عنه حكاياته وكأنى شاهدتها أو عاصرتها من قبل. فتح قلبه وباح بأوجاعه. كانت مصر هى الوجع الأكثر صخباً فى صدره. تؤرق حاله. وهو عاجز عن التغيير وحده. فقرر الهرب الى ليبيا من أجل مصلحة أسرته المادية.

تركنا بار «على بابا» وجلسنا فى ميدان التحرير. قرأ لى من ذاكرته قصصه القصيرة. كان يقرأها وكأنه يعبر بعينيه صفحات مكتوبة. أسمعنى بعض قصائده التى أختتمها بقصيدة «الأرض الشراقى»
-عارفة أيه هى الأرض الشراقى؟ الأرض اللى ما بتوصلهاش مياه النيل.. وأن إرتوت جادت.
كنت أسيرة لكنته الصعيدية.. يتحدث وكأنى أمام مبعوث من أهل الجنوب يعلمنى معانى الحياة. جوبنا شوارع وسط البلد حتى الصباح الباكر والكلام لا ينتهى، والدهشة لا تزول، والبرد لا وجود له فى قاموسينا. كنت مشدوهة بهذا العملاق الإنسانى الذى أنهل من كلماته، وعذوبته، وقسوته حتى على نفسه.
سألنى من ضمن ما سأل:
- حبيتى جبل «قبل» كده؟
- الحئيأة «الحقيقة» .. لأ
-عارفة يا جمر «قمر» فيه كلمات لما بتتنطج «بتتنطق» غلط بيروح معناها عنها.. يعنى انتى بتقولى «الحئيأة» بس هى اسمها «الحجيجة».. جربى تنطجيها.. الحجيجة.. هاتحسى أن معناها إختلف.. يعنى مثلا أنا أبقى رجل جلنف لو قولت لك أنت بنت رجيجة «رقيقة».. مخارج ألفاظى جاسية «قاسية». الصح أنى أقولك أنت بنت رئيأة.. والحقيقة أقسى وأوقع من رقة بنت جميلة زيك

بقيت كلمات أحمد محفورة بداخلى. وصدى صوته مازال يرن فى ذاكرتى. لم تكن ليلتنا سوياً هى ليلة رجل وامرأة متجاذبان فى شوارع القاهرة, بل كانت ليلة إنسانية لروحين .. تعارفا منذ قديم الأزل .. ربما منذ عهد آدم وحواء... وتاها فى صحراء لا أول لها ولا آخر.. وتقابلا صدفة فى واحة خضراء، فوقفا يستظلان من جدب الحياة الدائم.. وأفترقا دون وعود ولا آمال. إفترقا لأن الحياة تقف بينهما كجدار يحجب الأمل فى لقاء ثان.

تابعت أخبار أحمد على مدار السنين..وكان يبعث بسلامه لى فى مكاتباته لأخته. كنت أستمع لأخباره منها.. وكأنها حقى.. تابعت زواجه، وإنجابه، أسأل باستمرار عن أبنائه.. علمت أنه بدأ مشروع لمحو أميه القبيلة التى يعيش وسطها فى ليبيا.. لم أتعجب فهذا هو أحمد الذى عرفته جيداً، هذا هو الإنسان كما ينبغى له أن يكون

قابلت أحمد بعد عشر سنوات، ليلة زفاف أخته , وتحدثنا عل أستحياء عن ليلتنا الوحيدة فى شوارع القاهرة. وكان كما هو وأن زاد العمر ملامحه ليناً. أما أنا فكنت كما الأرض الشراقى عطشى للحب الذى لا يصلنى فى زمن الجدب العاطفى. وأنطلق لسانى -دون إذن منى- يودعه بنفس القصيدة التى عرفت بها أخته:

آه ما أقسى الجدار
عندما ينهض في وجه الشروق
ربما ننفق كل العمر .. كي نثقب ثغرة
ليمر النور للأجيال .. مرة !
ربما لو لم يكن هذا الجدار
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق !!

هناك 6 تعليقات:

V.Hayat يقول...

الحجيجة اتوحشنك زى الارض الشراقى ولا تغيبى عن كغياب احمد وفى انتظار كتابتك دائما

تحياتى

Magi Mostafa يقول...

قصه رائعه بجد وصفك لشخصيه احمد ومثالياته كان اكتر من رائع

تحياتى ومتغبيش علينا

soaad fakoory يقول...

لو عرفنا الضوء الطليق
دون الجدار
ما شعرنا بقيمته!!
وما انفقنا العمر
كى ننقب ..الثغره..
بوست جميل جدااااااا

غير معرف يقول...

الله عليك يا عبير تأخذيننا بعيدا عند حدود الغيم و تلقين بنا خلف أحلام وردية نتمنى أن لا نستيقظ منها .
أستغرب حقا أنك تعيشين في زمن القحط العاطفي و تكتبين بهذا الشكل كنسمة تزرع بنا سنابل الحب بقلوبنا و حروفك كالمطر تسقي أرواحنا العطشى بالأمل ....إشتقت لقلمك و فرحت لكتابتك بوست جديد ...لا تغيبي أكثر نحن بإنتظارك دائما .

دليــــــــلة

Humman being يقول...

انتى وحشتينا جدا جدا أو وحشتينى وافتقدتك أنا بالذات ، أشعر أنكى تكتبين عنى وليس عن نفسك ، كل حرف كتبتيه فى كل لوحك السابقة هى "أنا" تماما بكل تفاصيلى، الواضح أن جيلنا يعيش نفس التجارب ونفس القحط والجدب العاطفى ، ما يفرق بيننا فقط هو أسماءنا وأماكن تواجدنا- لا تغيبى عنا مرة أخرى

r يقول...

ه ما أقسى الجدار
عندما ينهض في وجه الشروق
ربما ننفق كل العمر .. كي نثقب ثغرة
ليمر النور للأجيال .. مرة !
ربما لو لم يكن هذا الجدار
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق

الكلام الجميل دا احلى تعليق على قصتك الرومانسيه اوى دى

عبير
دمتى بخير