الاثنين، 21 يوليو 2008

رحيل حبيبتى




رن هاتفى حوالى الخامسة صباحا.. وكانت أختى تخبرنى بوفاة جدتى.. آآآه جدتى وأمى وحبيبتى.. فى قرية عائلتى ينادون الجدة بالحبيبة.. لقد ماتت حبيبتى.. دق قلبى بعنف داخل صدرى وغرقت فى حالة سكون.. وتعجبت من حالى.. أين دموعى؟! لماذا أنا صامتة حد الخرس؟! تذكرت دموعى التى كانا تنهال من عينى أثناء مرضها اذا ما مر بذهنى أنها قد لا تكون موجودة فى عالمى ذات يوم!!...كيف لا أبكى جدتى الآن عند رحيلها؟! أكل ما أملكه هو دقات قلب عنيفة؟!

نهضت من سريرى.. وفتحت دولابى أبحث عن ملابس سوداء.. لم أجد سوى بنطلون أسود وقميص كحلى.. أرتديتهم بهدوء وبطء.. نظرت لنفسى فى المرآه أبحث عن أى انفعال أو تعبير.. وكان وجهى مقنعا بالصمت!!

إتجهت إلى موقف عبود وهناك ركبت ميكروباص أو بيجو لا أستطيع التذكر.. فقد كنت لا أعى أى شئ مما يدور حولى.. وطوال الطريق كان ذهنى ساكن.. يكاد يكون خالى من الأفكار.. وبالرغم من ذلك أرسلت كافة الرسائل إلى مكتبى أبلغهم فيها بحالة الوفاة.. وبتغيبى لثلاثة أيام -وفقا لقانون العمل- وأرسلت رسائل لزملائى كى يتابعوا عملى فى غيابى.. كل ذلك وانا لا أدرك أى شئ.. هناك طاقة ما تكمن فى العقل البشرى لا نعلم عنها الكثير. عندما تستكين أمواج الأفكار المتلاطمة.. تستطيع هذه الطاقة دفينة الأعماق أن تخرج من وإلى الوعى.

وصلت الى قرية جدتى فى ريف الدلتا.. صعدت سلالم منزل العائلة.. وجدت عدد وفير من النساء الملتحفات بالسواد فى كافة أرجاء البيت.. إتخذت ركن قصى وجلست صامتة.. أنظر الى تفاصيل الدار التى تحمل ذكريات طفولتى بين جدرانها.. إلى أن مرت إحدى خالاتى بجوارى ونظرت إلى بعينين متورمتين شديدتا الحمرة وقالت:
-إنت قاعدة هنا ليه زى الغريبة؟!
وإحتضنتنى وبكت.. وكانت نهنهاتها ترجرج جسدى الضئيل وأنفاسها الحارقة تلفح رقبتى.. نظرت من خلال حضنها الى منزل جدتى وشعرت بيتم مفاجئ.. أخذتنى من يدى وقالت:
-تعالى إقعدى معاها لآخر مرة.
هنا تيقظت بعض الشئ وكأنى أدرك الآن فقط أنى لن أراها بعد اليوم.. تسارعت ضربات قلبى و زادت عنفا وأنا أسير بين جموع النساء...دخلت غرفتها ورأيتها نائمة على سريرها...شديدة البياض بزرقة خفيفة...نحيلة جدا...بإختصار كانت هى.. وليست هى.. كنت أعلم أنها هى.. ولكن فى هيئة أخرى.. وضعت يدى فوق يدها الباردة المتخشبة.. وجلست بجوارها.. أقرأ لها القرآن ولا أبكى.. فقط صامتة.. ماذا يعنى هذا الصمت؟! أين أفكارى المتلاحقة؟! لا شئ بعقلى.. فقد كنت ساهمة.

حضرت مراسم الغُسل.. ومشطت لها شعيراتها البيضاء القليلة فى ضفيرتين تماما كما كانت تفعل معى وأنا صغيرة.. دثروها فى الكفن ووضعوها فى صندوق خشبى.. ودخل حشد من الرجال إلى غرفتها كى يحملوها.. ولكن إلى أين؟! إلى القبر؟! كيف تذهب هى وتتركنى أنا هنا؟! كيف أحيا فى كون أعلم أنا أنفاسها لم تعد تعطر هواءه بعد الآن؟!
يا الله.. انها فعلا ذاهبه!! تبعتها الى الخارج وأوقفنى أحد الرجال قائلا:
-فى بلدنا ما عندناش حريم بيحضروا الدفنة
نظرت اليه وكأنى لا أسمعه وتبعت الصندوق الخشبى.. فأشار له خالى أن لا فائدة من منعى.. وسرت وراءهم وسارت معى بعض خالاتى متشجعات بصمتى.. وصلنا قبور «سيدى خلف».. هنا ستدفن حبيبتى.. ماذا؟! تدفن؟! أيهيلون عليها التراب؟! أستترك فى ظلمة القبر وحدها؟!

وعندما رأيت الرجال يغلقون باب القبر عليها نزلت أول دمعة من عينى.. لن أرى حبيبتى مجددا..أصبح الأمر مؤكدا الآن.. وفُتحت كل طاقات الدموع المحبوسة منذ ساعات طوال.. كأنهار لا يحكمها سدود.. كفيضان يأبى السكون.. لا تهدئه انقضاء الساعات والأيام.. الى أن إحتضنى خالى وأبلغنى أنهم كانوا يخفون عنى حقيقة مرضها.. لتعلقى الشديد بها.. أخفوا عنى أنها أصيبت بسرطان الكبد.. فى عمر لا يحتمل فيه جسدها الهرم العلاج الكيميائى.. كان عليهم اما أن يقتلوها بالدواء أو يتركوها تموت بورمها.. ولقد إختاروا لها الموت دون الكيماوى.. الآن فقط أدرك أن جدتى قد تحررت من آلام المرض.. من الآن فصاعدا هى حرة من كافة أوجاع الجسد.. حتما هى الآن أسعد حالاً.. الأن فقط أدرك مقدار أنانيتى المفرطة.. أكتشف الآن أنى أبكى حالى دون جدتى.. ولا أبكيها هي.. أبكى وحدتى وإشتياقى الى أحضانها الدافئة.. ولا أبكيها هى.. أبكى إفتقادى لصديقة عمر تعلم عنى كل شئ.. حتى وان لم أحكى لها أى شئ.. أنا أبكى غياب حبيبتى عنى..عند هذه اللحظة توقفت دموعى.. وسكننى الصمت من جديد.

هناك 5 تعليقات:

محمد الهادى غانم يقول...

وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون
قولي لله إنا لله وإنا إليه راجعون من القلب والاحساس ان هذا هو الشئ الوحيد المؤكد في الحياة
ولله الأمر من فبل ومن بعد

غير معرف يقول...

اولا وقبل اى شىء , اقول لنفسى ولكل شخص لديه مصاب انا لله وانا اليه راجعون
اللهم ارحمنا الاحياء والاموات منا امين يارب العالمين
ثانيا رغم ان هذا ليس وقته استوقفتنى بشدة بل صدمتنى عنوان مدونتك يا عبير يوميات عانس
لقب تفزع منه كل البنات فلماذا توصمى مدونتك به
قد يكون رمزيا فقط لكنك على اية حال اوجعتى قلبى
مع خالص تحياتى وعزائى فى حبيبتك الكبيرة , اللهم ارحمها وارحمنا يا ارحم الراحمين
اميمة عز الدين

Tarek Elkhatib يقول...

لو كان لزامآ علينا الرحيل ,, كارهك يا وداع ولا بديل ,, والمستحيل انى امسح دمعة ,, مستحيل أخبى لوعة ,, مستحيل !!

nor يقول...

عبير
تصدقي موضوع السكون ده فعلاً غريب لكنه حقيقي
انا نفسي جربته وااستغربت حقأً
حقا عندما تغلق أبواب القبور تفتح باقي الأبواب...
لكي مودتي

Mohamed F. Elhouni يقول...

رحم الله أموات المسلمين أجمعين

عزائنا واحد