-أنتى بتحبى السياسة ولا أيه؟
-ليه بتسألى؟ّ
-أصل الجرايد اللى معاكى جرايد غريبة قوى (كانت مجموعة من الصحف المستقلة والحزبية)
-وإيه هى الجرايد اللى مش غريبة من وجهة نظرك؟
-اللى فيها حاجات تتقرى..
-زى إيه؟
-.......ضحكت بعبط طفولى لطيف وقررت تغيير مسار الحديث وقالت: إنتى بتدرسى أيه؟
-أنا خلصت دراسة من زمان.
كان واضحا من ردودى المقتضبة أنى لا أرغب فى الرغى.. كنت فيما مضى لدى الاستعداد النفسى لمثل هذه الحوارات مع الغرباء، أما الآن فعادة ما أفضل النوم أو القراءة، فجمعت صحفى وتوسدتها معلنة رغبتى فى النوم متجاهلة الأحداث المثيرة المحيطة بى، وساعدنى على قرارى أن القطار قد غرق فى ظلمة كاحلة، فقد قُطعت الإضاءة عن العربات.. ربما توفر هيئة السكك الحديدية فى الاستهلاك أو ما شابه!
نمت وصحوت بعد فترة.. نظرت أمامى فلم أجد الشاب والفتاة المتحابين، وبعد تفحص فى الظلام وجدت الفتاة الثرثارة تجلس أمامى وفى مكانها السابق بجوارى رأيت رجلا أربعينى.. ضخم الجثة يجلس فى وضع غريب.. ربما كان يحاول النوم.. أخرجت الثرثارة من حقيبتها كيس لب وبدأت فى جولة عنيفة من (الأزأزة والتف) على الأرض –ملحوظة: المسافة الفاصلة بيننا كانت لا تتعدى عشرة سنتيمترات- شعرت بشئ يتحسس جانبى الأيمن، فنظرت فى الظلام أحاول تفحص ماهيه هذا الشئ.. فلم أجد سوى ضخم الجثة مغمضا عينه.. فظننته نائما.. ولكن نفس الشئ تكرر أكثر من مرة.. فاستنتجت أن ضخم الجثة يتحرش بى بينما يدعى النوم.. حدثتنى نفسى أنها قد تكون أوهام فى عقلى الباطن استدعتها ملابسات الموقف، إلى أن تكررت اللمسات الخفية مجددا، وعلى الفور وجدت "ضخم الجثة" يعدل وضع يده ليضعها فى جانبه الايسر -تماما مثل عرائس المولد- فى حين أن عينيه شبه مغلقتين.. ترددت فى مواجهته, ربما يَقلب الموقف ضدى كما يحدث فى الأفلام، ولكنى استجمعت شجاعتى وقلت: "لو سمحت ممكن تشيل أيدك من هنا لأنها بتلمسنى كل شوية"
واللحظة التالية لم أجده فى مقعده.. اختفى تماما ولم أره مجددا.. ونظرت إلىّ الثرثارة تستنكر جرأتى واحتفظت بهذه النظرة الى أن نزلت فى محطتها.. خلا علىّ المربع.. وبعد فترة جاء شاب فى أواخر العشرينيات يبدو عليه أنه "شايف نفسه حبتين" فجلس فى مواجهتى ووضع إحدى قدميه على المقعد المجاور لى ونظر لى بتفحص وسحب إحدى صحفى.. يا الله.. ماذا حدث للبشر؟! هل تخلو مفرداتهم اللغوية من ألفاظ الإستئذان؟! أم أصبحت أنا الوحيدة التى أتمسك بتراث أجدادى اللغوى؟! تعجبت من حاله حين أخرج كشافا صغيرا من جيبه وبدأ فى تسليط إضاءته على الجريدة تارة وعلى وجهى تارة أخرى، فالتزمت الصمت لأنى أدركت أنه يريد استفزازى.. ربما لفتح باب الحوار.. فصدرت له الطرشة.. وفجأة أضاءت العربة.. حمدت الله وعدت إلى تصفح الجرائد.. إلى أن جاء متسول يزحف على الأرض ويضع ورقة بجوار كل راكب، فأخذت الورقة التى رماها لى وكانت كارت شخصى مهترئ مكتوب عليه: "أنا عاجز لا أقدر على العمل.. ساعدوا أخوكم العاجز"، وبالرغم من قذارته الواضحة وبؤس حاله، لم أتعاطف معه وعدت للجريدة إلى أن أوشكت محطتى على القدوم.. لملمت أشيائى القليلة، وهممت بالتحرك فسألنى "اللى شايف نفسه" إن كنت سأنزل المحطة القادمة! فلم أجبه، ومددت يدى فى صمت مطالبة باستعادة جريدتى.. ووقفت أمام الباب وإذا بالقطار يقف قبل المحطة بعدة دقائق، وسمعت شابين يتحدثان بأن القطار"هيخَزن" أى سينتظر مرور التوربينى.. خزن القطار أكثر من نصف ساعة، تعبت خلالها من الوقوف، فبحثت بعينى عن مكان أجلس به، فوجدت سيدة عجوز تجلس فى مربع بمفردها.. جلست أمامها وصدمت من قذارة المكان تحت قدميها.. ربما كانت متسولة.. كانت تأكل وتنظر إلىّ بريبة شديدة, فتحاشيت النظر إليها حتى لا تجرحها نظراتى الفضولية.. نظرت تحت أقدامى، فرأيت أكداسا مكدسة من قشر اللب.. تفحصت أرضية العربة فوجدتها معبأة بالقاذورات.. بعض المناديل الورقية.. الكثير من قشر اللب والسودانى.. العديد من أغلفة البسكويت والشيبسى... إلخ، وأخيرا وصل القطار بعد ساعتين ونصف تأخير عن ميعاده الأصلى.
عندما وطأت قدماى أرض محطتى المنشودة، تذكرت على الفور طفولتى البريئة حين كنت أعشق القطارات والسفر.. كنت أنتظر إجازاتى السنوية لا لأرتاح من أعباء المذاكرة, ولا لأسافر إلى المصايف لأبلبط فى البحر, ولكن لأركب القطارات وأتابع مسيرتها وأعد أعمدة الكهرباء على طول الطريق، وأسرح بخيالى فيما قد يحمله لى القطار فى مكان آخر بعيد غير مدينتى الصغيرة.. كنت أحلم بأنى "أليس فى بلاد العجائب" ووسيلتى لم تكن المرآه التى أتخطاها لدنيا العجائب، بل القطار الذى يحملنى إلى بلاد الله الواسعة.. الله يرحم أحلام الطفولة.. وتحيا مصر.